ما الحاجة إلى التفلسف؟ فتح لي السؤال سؤالين: ما التفلسف؟ وما الحاجة إليه؟ لما كان التفلسف مصدرا لفعل تفلسف، وهذا المصدر تساوي حروفه حروف فعله في تعبير عن الحال المعنوي. التفلسف يشير إلى ممارسة القول الفلسفي. لكن التفلسف أحوال، التفلسف على غير غرار، والتفلسف اتكاءً على من تفلسف على غير غرار. إذاً نحن أمام صورتين من صور التفلسف مختلفتين: التفلسف إبداعاً والتفلسف نهجاً على. وهو ذو تاريخ الفلسفة.
الفيلسوف المبدع لا يسأل ما حاجتي إلى التفلسف، بل هو الذي يطرح السؤال: ما حاجة الآخرين إلى التفلسف، ما حاجة الآخرين إلى التفلسف ليس سوى مد العقل بمناهج الفلسفة ومفاهيمها.
إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فهناك فرق كبير بين الفيلسوف والمتفلسف، كل فيلسوف متفلسف، وليس كل متفلسف فيلسوف.
قلنا إذا الفيلسوف لا يسأل ما حاجتي إلى الفلسفة شأنه شأن الشاعر والفنان، فليس هناك سبب خارجي للإبداع، لكنه باستطاعته أن يجيب عن سؤال ما حاجة الآخرين إلى الفلسفة.
فكل ما ينتمي إلى المبدع فمن العبث أن نسأل ما حاجة المبدع إلى إبداعه، لكننا نسأل ما حاجة الناس إلى ما أبدع. وما حاجة الوسيط بين المبدع والناس، كالناقد والشارح والمؤرخ والأستاذ المتخصص وهكذا.
دعوني أطرح السؤال: ما التفلسف إبداعاً، هذا سؤال عن الماهية، ماهية التفلسف.
يتفلسف الفيلسوف حين يغامر عقله الأرستقراطي بطرح سؤاله الذي يؤسس لهمه الفلسفي ولقلقه الوجودي.
يتفلسف الفيلسوف لكي يمنح الآخرين القدرة على التفلسف، حين يمنحهم مفهومه الأثير الذي انشغل به وصار أداة معرفية لفض ما ينشغل به العقل.
إذا تفلسف الفيلسوف هو الذي يخلق حقل قراءة التفلسف الذي صار فلسفة، وهنا يواجه الفيلسوف المشكلة الأبرز في علاقة النص بالقراءة. وهي مشكلة ناتجة عن الهوة التي تفصل بين عقله الأرستقراطي وعزوف الآخر عن الانشغال بما يولده الفيلسوف من نص مختلف عمّا ورثه العقل العادي من وعي بالعالم.
فالتفلسف بما هو عقل متمرد على العقل المألوف والمعهود والعادي والمعروف ليس باستطاعته أن يدخل عالم الوعي العادي ببساطة، ولهذا وقعت الشبهة به بأنه يعيش في برجه العاجي غير مكترث بالواقع الذي يعترفون به وبمعرفتهم العادية به.
نشأت الفلسفة، في الأصل، من طبقة الأحرار الأرستقراطيين، إنها ثمرة الأحرار الذين يفكرون متحررين من الحاجة، كل فكر إنما يصدر عن عملية التفكير وليس كل تفكير يخلق فلسفة. الفلسفة هي الأثر الباقي عن عملية تفكير مقصودها الوصول إلى أحكام كلية حول المجتمع والتاريخ والمعرفة والوجود والإنسان. والقول بأن الفلسفة أرستقراطية لا يعني سوى أنها تصدر عن نخبة دون ارتباط مباشر بالنخبة الحاكمة، والعامة معاً وهذا هو معنى أرستقراطيتها. وأرستقراطية الفلسفة تعني أن تتحرر من العقل العام وأسلوبه، لا رغبة في التميّز، بل لأن مهمة الفلسفة هي العقل في أعلى درجات حريته المنطقية البرهانية.
بل قل الفيلسوف هو الأرستقراطي الوحيد الذي يفكر بالحقيقة دون أن يكلفه أحد بذلك ولهذا ما من فيلسوف إلا يسعى لإبداع قول جديد في الفلسفة، إلا ويطرح على نفسه سؤال ما الفلسفة، سواء أجاء السؤال صريحًا أم مضمرًا؛ فالفيلسوف عندما يكتشف سؤالًا جديدًا، أو يعيد طرح سؤال قديم، ويعمل على صوغ الجواب، فإنه يقدم لنا تحديدًا جديدًا للفلسفة، يقدم الفلسفة كما يراها، وكأنه يجيب عن السؤال: ما الفلسفة؟ إنه يقدم لنا طريقة في التفلسف، ويظل في حقل ماهية الفلسفة، بوصفها نظرة إلى العالم، ومنهجًا في التفكير، الفلسفة منهج في التفكير؛ حكم تعريفي لا يقول – بعد – شيئًا عن المنهج، ولاسيما المفهومات، ينتقل هذا التعريف المجرد إلى المتعين حينما يعيد الفيلسوف طرح السؤال: ما الفلسفة؟ إنه- أي الفيلسوف – حين يذهب إلى المتعين؛ ليمتلكه نظريًا، يجيب عن السؤال: ما الفلسفة؟ إن سؤال: ما الفلسفة هو نفسه سؤال: ما المنهج الذي يسمح لنا بامتلاك العالم نظريًا، وما المنهج سؤال حول المفهومات المجردة التي صاغها الفيلسوف، بوصفها تعبيرًا عن الواقع، وتأكيدًا لوحدة الفكر والوجود؛ فالفيلسوف، وهو يكتشف المشكلة، يكتشف معها أدوات تناولها، أي: العدة المعرفية لامتلاكها نظريا.
كان الوجود، بدلالاته كلها – وما زال – مشكلة فلسفية، غير أن الزاوية التي نظر من خلالها إلى الوجود حددت – على نحو ما – منهج التفكير في الوجود، وحقل المفهومات المعبرة عنه. فحين نظر إسبينوزا إلى الوجود، بوصفه واحدًا لحل مشكلة ثنائية الوجود عند ديكارت، صار لديه مفهوم الجوهر الواحد، والصفة، والحال، والقائم بذاته، وسبب ذاته، والطبيعة الطابعة، والطبيعة المطبوعة، والضرورة لكنه – عمليًا – كان يجيب عن سؤال: ما الفلسفة؟ بحيث لو سألنا: ما الفلسفة عند إسبينوزا لأجبنا بكل اطمئنان: الفلسفة عند إسبينوزا هي معرفة الوجود، بوصفه جوهرًا قائما بذاته، وسبب ذاته، ومعرفة صفاته وأحواله.
تتميز المفهومات النظرية بأنها كائنات حية، تتطور وتتغير دلالاتها، وتموت أيضًا وحياة المفهوم ذات ارتباط بصيرورة المعرفة وسيرورتها؛ فهناك تاريخ لمفهوم الحق، يمكن رصده عبر مسيرة وعي الحق، وقس على ذلك الحكم، والديمقراطية، وهكذا.
وإذا كانت المفهومات هي حقل التفكير العقلاني – المنطقي – الواقعي، فإنه يقع في تناقض التصورات اللاهوتية التي تقوم لدى صاحبها بوظيفة المفهوم، وتتحول إلى أحكام، يحولها المنطق الصوري إلى حقائق، وعندئذ لا تقوم الحقيقة، وأحكامها، على مبدأ مطابقة ما في الأذهان مع ما في الأعيان، كما تقول العرب، بل تكون مع ما في الأذهان، فحسب، حتى إنْ كان هناك تناقض وتضاد ما بين الأذهان والأعيان.
هل باستطاعتنا أن نقول بأن المعركة ما زالت قائمة بين سلطة المفهوم، وسلطة التصور. أجل. ويبدو أن زمنًا طويلًا قد يمضي من دون أن تنتصر سلطة المفهومات الانتصار الذي يجعل من سلطة التصور سلطة أضعف من أن تحكم الحياة.

